الجمعة، 20 ديسمبر 2013

الله لا يسكن البيوت


الله لا يسكن البيوت...
في وطننا مصر ،اشتهرت مدينة القاهرة واختصت وحدها بلقب،مدينة الألف مئذنة، مبان شاهقة يذكر فيها اسم الله ،-وبالطبع اسم من بناها- والتي ترجع إلى عصر الأسرات الحاكمة لمصر من طولونية وإخشيدية وما تلاها من المماليك.
مساجد معمارية عامرة بالذوق الفني والحِس الإنساني،وكان لكل مسجد ملحق تعددت الأسماء الموصوف بها هذا الملحق ولكن بقي الهدف ثابت، وهو رعاية أهل الله بجوار بيوت يذكر فيها اسم الله بصفاته الرحمن الرحيم،لكنه لا يسكنها. كانت الملاحق تعتني بمن لا عائل لهم وبأبناء السبيل وغيرهم من المعوزين ،والذين نطلق عليهم صفة المشردين لا مأوى لا دخل يومي اللهم إن كان فيهم متسول يقتات بضعة جنيهات يومية تسد رمقه.
بدأ شتاء 2013 في مصر بموجة طقس مختلة بين الحار والبارد،لكنها اختتمت بموجة برد قارص حملت معها صقيع وأمطار فتكت بعظام من كانوا بمنازلهم يتدثرون بالأغطية،فما حال من يسكنون أسفل الكباري والأبنية المتهالكة،وعشش الصفيح.
كان يوم الخميس الموافق 12 ديسمبر ثاني أيام الصقيع ،وكان نهاية أسبوع من العمل،
هاتفت صديقتي رنا أن نذهب إلى وسط البلد،أخذتنا أقدامنا بدون احتساب،وعندما اقتربنا من نهاية شارع رمسيس ،تحدثت إلى رنا بتكملة المسير ،وجدنا هيكل إنسان تحاول أو يحاول –لم نتأكد بعد من يجلس على الكرسي المتحرك سيدة أم رجل- رفع البطانية بيد مرتعشة لا تقوى على تثبيت شيء . البرد كان يشتد ولفحات الهواء البارد تحاول تجميد أطرافنا لولا التحرك والتمشية،فتحدثنا لو نذهب إلى كشك صغير في مقدمة شارع محمود بسيوني نقتات منه بعض المأكولات لأجل الجالسة أو الجالس على الكرسي المتحرك.
هناك وجدنا "نصبة شاي" رجل يبيع الشاي،فحدثت رنا لو نجلب بعض الشاي للتدفئة لكن لنسألها أو نسأله أولًا ...ذهبنا إلى أسفل الكوبري في مدخل امتداد شارع رمسيس من جهة ميدان عبد المنعم رياض/التحرير، وجدنا سيدة أربعينية نحيلة تضع في فمها منديل ورق،وتحاول برجفة أن ترفع البطانية على جسدها، كان نصف جسدها الأسفل عاري تمامًا –خمنت أنه كذلك من أجل نداء الطبيعة حتى لا تتكلف عناء التحرك بالكرسي من جهة إلى أخري- حاولت مع رنا رفع البطانية معها فقد كانت ممتلئة بأكياس بلاستيكية سوداء ممتلئة بأشياء لم يكن ببالنا سؤال نهاد عنها –هكذا كان اسمها الذي أخبرتنا به- سألناها هل نجلب إليك بعض الشاي الساخن للتدفئة ،فقالت لو أمكن أن يكون بحليب،غلبتنا الحيرة من أين نأتي بحليب في مثل هذا وقت من نصبة شاي فقيرة،فقالت "لو ممكن تجيبوا علبة لبن جهينة وتضيفوه على الشاي" من حديثها بدت كإحدى السيدات اللائي ينطبق عليهن لقب "عزيز قوم ذل" أو أن أحد ذويها قد مل من خدمتها وهي قعيدة فألقى بها في الطريق لتواجهه وحيدة بجسد مشلول على مقعد متحرك،وفي محاولتنا لتغطيتها ،فوجئنا برجل بسيط الحال يحمل أوراق في يد،وفي اليد الأخرى شنطة بلاستيكية بها جاكيت جلدي ،الرجل كان يرتدي قميصًا وأسفله بلوفرين ،وربما كان يحمل الجاكيت احتياطيًا وتحسبًا لأي تهور في الطقس،أعطى الجاكيت لرنا وقال لها "لبسيه لها ربنا يرأف بحالها وحالنا" وفي محاولة رنا إمساك ذراع (نهاد) اليمنى أخبرتها أنه جاكيت لتدفئتها فبادرتها بسؤال "هو شكله حلو؟!!!" فأخبرتها رنا بنبرة أم تدلل طفلتها "اه والله ده جميل وشيك " فألبستها اليمنى وألبستها اليسرى،ورفعنا الغطاء عليها بشكل جيد، بعدها ذهبنا لإحضار كوب الشاي باللبن وسألنا البائع عن مدة تواجدها،فقال قرابة السنة والنصف، أثناء سيرنا من مدخل محمود بسيوني إلى مكان (نهاد) تساقطت قطرات من المشروب الدافيء على طرف الكوب ،فعندما أعطيناها الكوب أخذت تمسح طرفه بالمنديل ،سألناها أليس لكِ منزل ،فقالت "يااااه كان زمان" ، طرحنا عليها فكرة مكان بديل قالت "نفسي والله ألاقي مكان أقعد فيه وأتعالج، بس مافيش وكتير عدوا عليَّ زيكم وقالوا لي هندور لك على مكان وماحدش فيهم رجع تاني" هكذا كان حالها ،قعيدة بدون مأوى ربما طردت من منزلها أو حدث لها ما حدث.
وعدنا نهاد بالبحث عن مكان ليأويها فموجة البرد قارصة وحالتها الصحية متأخرة،كانت نهاد حديثنا في طريق العودة ،أفكر مع رنا عن أماكن، وأبلغتها عندي يقين بأنها ستموت ولن نسعفها...صادفتنا سيدة أخرى تجلس أمام أحد مساجد وسط البلد تلعب مع قطتين وتدفئهم بابتسامة من البرد ،وخلفها باب المسجد مغلق ،سألت رنا لماذا لم يرحم هذه السيدة خادم المسجد ويفتح لها الباب تتمي داخله من البرد؟!!! فسكتت وسكت معها ،لم نجد جواب يليق...ونشرت حالتها على مواقع التواصل الاجتماعي (FaceBook-Twitter) وتشاركها الكثير من الأصدقاء ولم يجيب أحد بحل!
سألت الصديقة رشا هندية وهي مسئولة إحدى الجمعيات الاجتماعية المستقلة المعنية باليتامى والفقراء، هل من مكان ، تأسفت لحالها وأبلغتني بفقر مصر بمثل هذه الأماكن،وأنهم يعدون خطة بالجمعية من أجل إنشاء مثل هذه الدار لتأوي المشردين من العاجزين والمرضى.
هاتفت إحدى الجمعيات التي أذاعت في أول إعلان لها عن الرعاية بالعاجزين والفقراء، فأخبرني المجيب هل معها بطاقة،فأخبرته لا أعرف فهي امرأة مشردة في الطريق كيف لي برؤية بطاقتها؟!!!
فقال أسف لا أقبلها إلا ببطاقة،علاوة على أننا نقبل حالات الزهايمر فقط!!!
أبلغته ببرودة الطقس وأنها لن تقوى على الاحتمال بجسدها المتهالك، اعتذر وقال لا شيء بيدي لابد من بطاقة.أبلغته أنني سأحضرها له بمحضر من الشرطة فقال لن نستطيع قوانين الدار تتطلب بطاقة ، ربما تصنعين محضر وتسلميها للقسم تودعها إحدى الدور التابعة للحكومة...
أغلقت الهاتف فلم يعد للكلام قيمة.....
عدت إلى القاهرة يوم الأحد ،كنت على وشك الذهاب إليها قبل العمل لكن وقوف المواصلات عطل ذلك، فقلت أنهي عملي وأنهي محاضراتي بالجامعة وأذهب إلها.وقد كان ذهبت إلى وسط المدينة وحدثت نفسي أن أذهب أولًا لبائع الشاي أحضر لها كوب دافئ قبل أن أذهب لها، فابتسمت لها أتذكرني فقال "أيوه طبعًا ازيك يا أستاذه ده ربنا هيجازيكم خير" فقلت له المهم أحضر لها كوب شاي أخذه معي لها ، فنظر لي "البقية في حياتك يا أستاذه" ....
رحلت نهاد فجر اليوم الثاني لرؤيتنا إياها، رحلت كما ترحل النساء فجرًا، وجدها أحد الشباب برأس مائلة ذهب ليغطيها هو الأخر كما فعلنا سابقًا وجدها قد أٍسلمت الروح،فنادى بائع الشاي والباقي معروف من أنها دفنت في مقابر الصدقة وارتاحت الخ...
لكن على بضع خطوات من مكانها مسجد الشبان المسلمين،وزاوية بعبد المنعم رياض،وكنيستين،هذا غير دور العبادة الأخرى بالشوارع المحيطة بالميدان،لماذا لم يفتح لها باب؟!!! ألم يراها أحد موظفي هذه الأماكن؟
لماذا لا توجد بمصر جمعية تأويهم،تنقذ أرواحهم من عبث الحياة .القوانين لا تسمح لماذا؟!!! للجلوس ليلة في مسجد أو كنيسة،الله لا يسكن الجدران ،العاجزون ليس لهم إلا الله يأويهم فلماذا لم تفتحوا بيته لهم في موجة قارصة كتلك؟
هل تنتظرون العرض الإعلامي لتبيان كم أنتم رحماء بالمشردين؟ أم انتظرتم أرواح أخرى تموت ...
نهاد وغيرها من المشردين المرضى لم يكن لهم عائل، لكن كانت هناك الدولة التي تقوم بهذا الدور أن تعول مواطنيها ،أو بأقل تقدير تفتح دور العبادة التي لا يدخلها أحد ليلًا من أجل غطاء وجدران تحول دون اشتداد البرد،وترحمهم طالما لم يرحمهم بشر مثلهم ،فالجدران كانت أولى...
نهاد كانت إنسانة وكان لها الحق في الحياة.



ليست هناك تعليقات:

 
قُطُوُف - Blogger Templates, - by Templates para novo blogger Displayed on lasik Singapore eye clinic.