السباط
ذاك السباط الذي شهد كل شيء، ومنحه الله كل النعم. اكتنز في الصباح الشمس بقلبها الطيب، والسماء ذات البهاء، برفقة الجدة وصيصانها الذهبية. ممتلئ بضحكة الخال والخالة على فطور طيب دسم بالدفء واللقم، وتلك الطفلة ذات الوجه وردي الخدود المكتنز. حفلات الصيف المسائية والسمر مع الأهل والأقارب القادمين من بندر جاف بعيد. ليالي الشواء والولائم، وفي نهايات الخريف يغوص فيه قادوس عتيق يلفه الساعد تلو الساعد وتعد عليه الجدة ما طاب من خزين الشتاء القادم، ضحكات فتيات الدار في أيام تجهيزات العرس، الخال وهو يتأهب لمراسم زفافه. ذاك السباط الذي شاهد الضنك والهناءة، وامتلئ بالزغاريد والنحيب ااااه كم جمع من مشاعر وتناقضات.
في وصفه هو الكون، بل كان أكبر من الكون غائر بين شقتين لكنه يحتضن العالم، رغم بساطته. هناك في الجهة القبلية نجلس على درج مدخل المقعد القبلي نتسامر ونضحك، أما جدتي فتجلس في مكانها المفضل أمام بسطة غرفة الصالون الكبرى وكأنها تنتظر جدي الذي رحل يهل عليها بضيوفه من الأكابر كعادته، لم تغير جلستها قط. بالفعل لا أذكر لها مكان اخر على السباط في العادة غير هذا الموضع تجلس وضهرها قائم يستند إلى عامود الغرفة أو بابه الأنيق، اللهم إن كانت جلسات قليلة بجوار (المنور) أثناء تجهيز الشعيرية على القادوس. وربما كانت تجلس هناك لتحد الصيصان عن النزول أو الصعود حتى لا يغيبوا عن طعامهم! لم لا فهي تعاملهم دوما وكأنهم أبناؤها، فتبسط حمايتها الحانية عليهم وعلى الجميع...
نسيم ليلة صيفية يأتي على الخاطر الآن، الخال يجهز شرائط الكاسيت، والخال الآخر يضبط الجلسة مع الخالة الصغرى والطفلة الضخمة تحاول فعل أي شيء تلهو فتساعد فتعبث هنا وهنا لتفعل كما يفعل الكبار في تحضيرات السهرة، والجدة تتأهب للصعود والخالة الأخرى والأم يعدان ما طاب ولذ من طعام.
ضحكات تسري في جنبات السباط تزيد من لطافة نسائم الصيف، تعيد شبابه من جديد أي السباط فعلى رغم عتاقته وعمق علاقته بالدهر إلا أنه ظل شابا لا يشيخ، عروقه الخشبية تنبض دوما بالحياة وكأنها خضراء تنبت كل يوم ويرويها الضحك والحب...
ذاك السباط الذي احتضن كل العالم وفتحت جدتي قلبه للحياة فلم يمت...