جارة الوادي التي سلكت طريق الخِفة...
يا جارة الوادي طربتُ وعادني *** ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
ظهورها المرح على
شاشة السينما جعل منها أيقونة سينمائية، خفيفة الظل يبتهج المشاهد لطلتها. لمَ لا؟!
وقد شكلت على مدار تاريخها الفني ثنائيات فنية شملت الغناء والاستعراض والتمثيل مع
كوكبة فنية منهم على سبيل المثال: فريد الأطرش، وعبد العزيز محمود وكذلك محمد فوزي
ومحمود شكوكو وكمال الشناوي، وغيرهم. إلا أن البداية كانت مع رائد المسرح يوسف
وهبي في فيلم "جوهرة" عام 1943. هي الآنسة "نور الهدى"...
على الرغم من كونها
لبنانية الأصل، كان حضورها مصريًا خالصًا، لا تشوبه شائبة اللكنة أو الألفاظ. حيث
تميزت نور الهدى بدقة مخارج الحروف في نطقها، ولعل هذا ميزها في أدائها لشتى صنوف
الغناء والطرب، فقد أدت الأغاني الدينية والقصائد والأدوار والموشحات والموال والديالوج
والمونولوج والأغاني الخفيفة بكل إتقان وحنجرة ذهبية لا تخطئ المذهب. صوتها الذي
رافقه نغم كبار الملحنين كالشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب، جعل
أغانيها على رغم خفتها طربًا صداح...
رافقها الخواجه بدران
(والدها) طوال فترة عملها بمصر، حتى أن الصحافة كتبت عنها يومًا تحت عنوان
"نور الهدى وخيالها". عمل والدها في المقاولات، وكان يملك معملًا لصناعة
(الموزاييك - الفسيفساء) أي البلاط في تركيا والتي هاجر إليها بعد زواجه من
والدتها، ولذا كان ميلاد "ألكسندرا بدران" – وهو الاسم الحقيقي لنور
الهدى - بتركيا في يوم 24 ديسمبر لعام 1924.
كان أول ما غنت لعبد
الوهاب وهي لم تزل ابنة التسع سنوات، دور "اللي راح راح يا قلبي وشكوتك لله"
من كلمات حسن أنور وقد غناها عبد الوهاب في عام 1928 على مقام زنجران، ولشدة
افتتان الطفلة بصوت عبد الوهاب كان كل ما يغنيه تؤديه وتحفظه عن ظهر قلب. وقد كانت
البداية من مسرح المدرسة وتولى رعايتها في الخفاء زوج عمتها والذي أوكل تربيتها
موسيقيًا إلى الملحن اللبناني "خالد أبو النصر"، وحين بلغت عشر سنوات
أقامت حفل غنائي بسينما "كريستال" ببيروت وقد أحيت الحفل عام 1934 دون
علم والدها والذي صب غضبه عليها وحبسها بالمنزل عام كامل لأنها غنت دون إذنه، حتى
رق قلبه لها ولم يجد بد من عشقها للغناء، حتى أتى عام 1942واستمعت إليها المطربة (فتحية
أحمد) والتي رشحتها لـ (يوسف وهبي) والذي بدوره كان يبحث عن وجوه جديدة، وبالفعل
اشتركت معه في فيلم (جوهرة) بعدما اختارت من القبعة اسمها السينمائي والذي كان ما
عرفناه فيما بعد "نور الهدى"، وكانت البداية في القاهرة مع العام 1943، حتى
النهاية والانقلاب عليها نتيجة الصراعات الفنية في عام 1953.
10 سنوات مثلت فيها
30 فيلم وأدت عشرات الأغاني داخل مصر التي أحبتها نور الهدى، إلا أن كرامتها أبت
أن يضيق عليها الخناق أكثر من ذلك "حسبما قيل أن الضرائب طاردتها، وقيل أن
الصراع الفني حجبها عن الظهور المسرحي وقيدها في ثوب السينما والأغاني
الخفيفة". بعدما غنت لكبار الشعراء والملحنين، أمثال السنباطي وفريد الأطرش
وزكريا أحمد، والقصبجي وفيلمون وهبي وفريد غصن وغيرهم، اختارت خفيفة الظل نور الهدى
ظل الجبل ببلدة حمدون في لبنان لتحتجب عن الأنظار. وهنا ننثر قليل القليل من
إبداعات نور الهدى التي أبدعت في جميع الألوان الفنية...
***
في الموال قدمت لنا
صوت نقي مسترسل دونما انقطاع في ذكاء منها وقوة من صوتها، في موال "يا شارب
الراح راح مالك وراح مالي"
***
"أصل الغرام
نظرة " دور شرقي أصيل أداه الفنان "محمد عثمان" وتسابق إليه أساطين
الطرب في مصر والشام كي يتغنوا به، فأكم من مطربة ومطرب أنشدوه حبًا وانسجامَ.
صدقًا لم تبخل علينا
نور الهدى في غناء الأدوار، وعلى وجه الخصوص إبداع صوتها في هذا الدور تحديدًا على
مقام "راست" وهو من الأدوار الخالدة على مر الزمان، وقد أدته في حفل
بكازينو (بيسين عاليه) في لبنان.
***
أما عن الموشحات فحدث
ولا حرج، فقد تعددت الموشحات التي تغنت بها، كأنما هي الكروان يشدو ليطرب الكون في
رحاب ليلة أندلسية، فيهيم بها الحاضرين، وقد شدت على مقام "نهاوند"
موشح "عبث الحب
بقلبي فاشتكى" للشاعر الأندلسي "يحيى بن بقى القرطبي"
***
وعن اللون اللبناني
(الشامي) في صوت نور الهدى، نجدها تصر على أن تمتعنا بصوت وأداء فريد، حيث الخفة
لم تزل تصاحبنا فلنا أن نتخيل ماذا يحدث حين يجتمع اثنان خفيفي الظل في قالب
غنائي، لابد وأن تفرض بساطتهما السطوة من فرط العذوبة والسهل الممتنع في اللحن
والصوت وكذلك الكلمات الآتية من رحم الريف اللبناني، كانا هذان الاثنان نور الهدى
بالطبع ومعها لحن الفتى الشقي "فيلمون وهبي" في أغنية "على إم
المناديلي" والتي كتب كلماتها الشاعر اللبناني (عبد الجليل وهبي)، وقد لحنها
فيلمون على مقام راست، في مزج خفيف بين لحن بذرته شرقية لكن زُرع وتمت سقايته من بيئة
شعبية صرفة، هكذا كان فيلمون وهبي يخطف السمع والقلب معًا ما بين السلطنة والحنين،
وبالفعل هذا ما قدمته نور الهدى بكل رشاقة...
ومن فيلم "أميرة
الأحلام" إنتاج 1945، للمخرج أحمد جلال. نجدها قدمت أغنية خفيفة من كلمات
عباس كامل وألحان زكريا أحمد، "فاكهة وفكهاني وصوت حياني" كأنما نستمع
لفتاة مصرية من حي شعبي تغني للفاكهة أو كما يقال تنادم على بضاعتها وتتغزل في
جمالها...
***
لكن ماذا عن روحانية
صوتها؟
قدمت نور الهدى صوت
خاشع متعبد، متمرس على الإنشاد الديني بكل توجهاته، فقد أدت القصائد والأدعية
وكذلك الترانيم الكنسية...
أنشدت "رتلوا آي
الكتاب المُنزل" من نظم الصاوي شعلان وألحان رياض السنباطي، على الرغم من
صحبة موسيقى السنباطي بمقام كرد لصوتها، إلا أنها أفردت طبقة صوتية رخيمة طغت على
اللحن، كأنما أراد السنباطي رسم لوحتين باللحن تارة وبالصوت تارة أخرى...
كما أبدعت في دور أصل
الغرام نظرة، الدور ذائع الصيت في الغناء الشرقي، أثبتت التفرد بطبقات صوتها هنا
في هذه الترنيمة التي رنمها العشرات من مطربي لبنان، هذا بخلاف فرق الترانيم
الكنسية العديدة. لا توجد موسيقى ظاهرة في الخلفية، فقط صوتها القوي يصدح في
الأرجاء مع الكورال المرنم، واليوم عُلق على خشبة...
ولا نغفل أول
أغنياتها الروحانية في القاهرة "يا رب سبح بحمدك كل شيء حي" تلك الأغنية
من فيلم "جوهرة" من كلمات بيرم التونسي وألحان الفنان محمد الكحلاوي.
***
ألكسندرا، نور الهدى،
جارة الوادي، تعددت الأسماء والكروان واحد. واحدة من الأصوات التي أثرت مكتبة
وتراث الغناء العربي، على الرغم من قلة أعمالها التي تركتها لنا.
في فيلم الآنسة بوسة
غردت نور الهدى بمنولوج خفيف من كلمات بيرم التونسي ولحن رياض السنباطي "أنا
بوسة خفيفة الظل خفيفة الشكل خفيفة الدم"
بقيت خفة نور الهدى
تؤنس ذاكرتنا من مشاهد سينمائية وتشنف آذاننا برقة وخفة صوتها...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق